كتاب: فتاوى الرملي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتاوى الرملي



(سُئِلَ) عَنْ شَخْصٍ قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِجِهَةِ الْعُلُوِّ، وَإِنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِجَلَالِهِ بِلَا كَيْفٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيك وَرَافِعُك إلَيَّ} وَبِقَوْلِهِ: {ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ} وَبِقَوْلِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ، وَإِنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ بِذَاتِهِ وَبِقَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ حَيْثُ ذَكَرَ حَدِيثَ يَنْزِلُ رَبُّنَا وَبِمَا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ وَهُوَ بَعْدَ أَوَّلِهِ بِنَحْوِ وَرَقَتَيْنِ وَبِمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْكَشْفِ عَنْ مَنَاهِجِ الْأَدِلَّةِ حَيْثُ قَالَ الْقَوْلُ فِي الْجِهَةِ، وَأَمَّا هَذِهِ الصِّفَةُ فَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ يُثْبِتُونَهَا حَتَّى نَفَتْهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَمُتَأَخِّرُو الْأَشْعَرِيَّةِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَمَنْ اقْتَدَى بِقَوْلِهِ إلَى أَنْ قَالَ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ إثْبَاتَ الْجِهَةِ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا إلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَبِقَوْلِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ فِي الرَّدِّ عَلَى بِشْرِ الْمَرِيسِيِّ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَوْضِعِهِ وَبِمَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الْإِبَانَةِ وَبِمَا قَالَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ فِي كِتَابِهِ الْحِلْيَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ بِجِهَةِ الْعُلُوِّ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ، فَمَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَنْبَلٍ فِي هَذَا الْقَوْلِ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا وَهَلْ فِي كَلَامِهِمْ نَصٌّ فِي إثْبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ نَفْيِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي كَلَامِهِمْ نَصٌّ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ وَلَا نَفْيِهِ فَمَا حَقِيقَةُ مَذَاهِبِهِمْ فِي ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِمَا هُوَ نَصٌّ لِهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَنُظَرَائِهِمْ لَا بِمَا قَالَهُ بَعْضُ مُقَلِّدِي هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَا قَالَهُ إمَامُهُ فَقَدْ وَجَدْنَا الشَّيْخَ جَلَالَ الدِّينِ الْمَحَلِّيَّ نَقَلَ فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّأْوِيلِ وَمَعْنَى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} اسْتَوْلَى وَقَدْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي أَوَّلِ كُرَّاسٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ وَمَنْ قَالَ إنَّ الِاسْتِوَاءَ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَعَالِيهِ وَقَهْرِهِ وَلَوْ كَانَ مَا قَالَهُ الْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ نَقْلًا لِلشَّافِعِيِّ لِمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَطَلُّبِ نَصِّ الْأَئِمَّةِ وَنُظَرَائِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ إمْعَانُ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْجَوَابُ بِمَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا أَوْدَعَهَا كِتَابَهُ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَإِذَا قُلْتُمْ إنَّ مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ فِيمَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ إنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فَمَاذَا يَلْزَمُهُ بَيِّنُوا لَنَا الْجَوَابَ بَيَانًا شَافِيًا مَبْسُوطًا وَاذْكُرُوا مَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مَعْزُوًّا كُلُّ قَوْلٍ لِقَائِلِهِ؟
(فَأَجَابَ) الْحَمْدُ لِلَّهِ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مَا عَدَا مَنْ سَيَأْتِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِجِهَةِ الْعُلُوِّ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ مَبْسُوطَاتِهَا وَمُخْتَصَرَاتِهَا وَقَدْ رَوَوْهُ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ لَا يَحْتَمِلُهَا هَذَا الْجَوَابُ قَالَ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ غَانِمٍ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ حَلُّ الرُّمُوزِ وَمَفَاتِيحُ الْكُنُوزِ سُئِلَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ فَقِيلَ لَهُ أَخْبِرْنَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَقِيلَ لَهُ كَيْفَ هُوَ فَقَالَ إلَهٌ قَادِرٌ قِيلَ أَيْنَ هُوَ قَالَ بِالْمِرْصَادِ فَقَالَ السَّائِلُ لَمْ أَسْأَلْك عَنْ هَذَا فَقَالَ مَا كَانَ غَيْرُ هَذَا فَهُوَ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ فَأَمَّا صِفَتُهُ تَعَالَى فَاَلَّذِي أَخْبَرْت عَنْهُ.
وَسُئِلَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ عَنْ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فَقَالَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَرَفْنَا بِهَذَا الْقَوْلِ مَنْ هُوَ مَا عَرَفْنَا مَا هُوَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ.
وَقِيلَ لِصُوفِيٍّ أَيْنَ اللَّهُ فَقَالَ قَبَّحَك اللَّهُ هَلْ تَطْلُبُ مَعَ الْعَيْنِ أَيْنَ قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ} وَسُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنْ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فَقَالَ الرَّحْمَنُ لَمْ يَزُلْ وَالْعَرْشُ مُحْدَثٌ فَالْعَرْشُ بِالرَّحْمَنِ اسْتَوَى، وَسُئِلَ ذُو النُّونِ فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فَقَالَ أَثْبَتَ ذَاتَه وَنَفَى مَكَانَهُ فَهُوَ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مَوْجُودَةٌ بِحِكْمَةٍ كَمَا شَاءَ.
وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ الِاسْتِوَاءِ فَقَالَ اسْتَوَى كَمَا أَخْبَرَ لَا كَمَا يَخْطِرُ لِلْبَشَرِ وَسُئِلَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ عَنْ الِاسْتِوَاءِ فَقَالَ آمَنْت بِلَا تَشْبِيهٍ وَصَدَّقْت بِلَا تَمْثِيلٍ وَاتَّهَمْت نَفْسِي فِي الْإِدْرَاكِ، وَأَمْسَكْت عَنْ الْخَوْضِ فِيهِ كُلَّ الْإِمْسَاكِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ مَنْ قَالَ لَا أَعْرِفُ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ هُوَ أَمْ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوهِمُ أَنَّ لِلْحَقِّ تَعَالَى مَكَانًا فَهُوَ مُشَبَّهٌ.
وَسُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ الِاسْتِوَاءِ فَقَالَ الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّائِلِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا أَرَاك إلَّا خَارِجِيًّا أَخْرِجُوهُ عَنِّي.
وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ اخْتِلَافًا فِي صِحَّةِ الِاعْتِقَادِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى أَئِمَّةِ الْأُمَّةِ وَسَاءَ ظَنُّهُ بِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ سُئِلَ مِصْبَاحُ التَّوْحِيدِ وَصَبَاحُ التَّفْرِيدِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- بِمَ عَرَفْت رَبَّك فَقَالَ عَرَفْت رَبِّي بِمَا عَرَّفَنِي بِهِ نَفْسَهُ لَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَلَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ قَرِيبٌ فِي بُعْدِهِ بَعِيدٌ فِي قُرْبِهِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يُقَالُ تَحْتَهُ شَيْءٌ، وَأَمَامَ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يُقَالُ أَمَامَهُ شَيْءٌ وَهُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا كَشَيْءٍ فِي شَيْءٍ فَسُبْحَانَ مَنْ هُوَ كَذَا وَلَيْسَ هَكَذَا غَيْرُهُ. اهـ.
وَمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا ظَاهِرُهُ الْقَوْلُ بِالْجِهَةِ مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ بِخِلَافِهِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ، وَإِنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ بِذَاتِهِ فَقَدْ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِهَا: إنَّهُ قَدْ أَخَذَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ بِذَاتِهِ وَسَمِعْت شَيْخَنَا أَبَا عَلِيٍّ الْجُبَّائِيَّ يَقُولُ إنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ دُسَّتْ عَلَى الْمُصَنِّفِ فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَلَا إشْكَالَ فِي سُقُوطِ الِاعْتِرَاضِ ثُمَّ أَطَالَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ قَالَ: وَالضَّمِيرُ فِي بِذَاتِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي فَكَأَنَّهُ قِيلَ الْعَرْشُ الْمَجِيدُ فِي ذَاتِهِ فِي الشَّرَفِ وَالْعِظَمِ وَالْكَرَمِ.
وَإِمَّا فَوْقِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ بِمَعْنَى الشَّرَفِ وَالْجَمَالِ وَالْكَمَالِ وَالْمَكَانَةِ لَا فَوْقِيَّةُ أَحْيَازٍ، وَأَمْكِنَةٍ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْمَكَانُ وَالْجِهَاتُ وَمُشَابَهَةُ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ إمَّا بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْمُلْكِ فَيَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْقَهْرِ أَوْ بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُخَالَفَةِ فَيَرْجِعُ إلَى مَعْنَى التَّنْزِيهِ، وَإِنْ أَعَدْت الضَّمِيرَ فِي بِذَاتِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةَ الْمَعْنَوِيَّةَ لَهُ تَعَالَى بِالذَّاتِ لَا بِالْغَيْرِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَجِيدُ بِضَمِّ الدَّالِ لَا بِخَفْضِهَا فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مَجِيدٌ بِذَاتِهِ لَا بِكَثْرَةِ أَمْوَالٍ وَضَخَامَةِ أَجْنَادٍ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ الْمَجِيدُ وَبِذَاتِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَجِيدِ أَوْ بِمَحْذُوفٍ حَالًا مِنْهُ. اهـ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ فَمَرْدُودٌ إذْ هُوَ كَذِبٌ حَمَلَهُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُهُ الْفَاسِدُ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَلِيِّ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَلِيلٍ الْإِشْبِيلِيُّ السَّكُونِيُّ الْأَشْعَرِيُّ وَلْيُحْتَرَزْ مِنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي الْمُعْتَقَدِ فَاسِدٌ. اهـ.
وَأَمَّا كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ كَالْأَشْعَرِيِّ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ إنْ كَانَ فِيهِ مَا ظَاهِرُهُ إثْبَاتُ الْجِهَةِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَأْوِيلُهُ فَهُوَ كَذِبٌ عَلَيْهِ ثُمَّ رَأَيْت بِالنَّسَبِ مَا نُسِبَ لِلْأَشْعَرِيِّ فِي الْإِبَانَةِ وَحَاصِلُهُ مَعَ التَّأَمُّلِ إثْبَاتُ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَدَمُ تَأْوِيلِهِ بِالِاسْتِيلَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ فِي كِتَابِهِ الْحِلْيَةِ فَهُوَ مَاشٍ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمَرْدُودِ.
وَأَمَّا تَخْطِئَةُ ابْنِ رُشْدٍ تَأْوِيلَ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ فَهُوَ لِمَا فِيهِ مِنْ إيهَامِ الْمُفَاعَلَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَعْلِيلِهِ كَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا مَعْنَى قَوْلِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قَالَ إنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ فَقَالَ الرَّجُلُ إنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ اسْتَوَى أَيْ اسْتَوْلَى فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ مَا يُدْرِيك الْعَرَبُ لَا تَقُولُ اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ فُلَانٌ حَتَّى يَكُونَ لَهُ فِيهِ مُضَادٌّ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ قِيلَ قَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا مُضَادَّ لَهُ فَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ. اهـ.
وَالْمُؤَوِّلُونَ بِهِ لَا يُسَلِّمُونَ تَعْلِيلَهُ وَعِبَارَةُ الطَّوَالِعِ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ خِلَافًا لِلْمُجَسِّمَةِ وَلَا فِي جِهَةٍ خِلَافًا لِلْكَرَامِيَّةِ وَالْمُشَبِّهَةِ لَنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ فِي جِهَةٍ وَحَيِّزٍ فَإِمَّا أَنْ يَنْقَسِمَ فَيَكُونُ جِسْمًا وَكُلُّ جِسْمٍ مُرَكَّبٌ وَمُحْدَثٌ لِمَا سَبَقَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ مُرَكَّبًا وَمُحْدَثًا هَذَا خُلْفٌ أَوْ لَا يَنْقَسِمُ فَيَكُونُ جُزْءًا لَا يَتَجَزَّأُ، وَهُوَ مُحَالٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ فِي حَيِّزٍ وَجِهَةٍ لَكَانَ مُتَنَاهِي الْقَدْرِ كَمَا سَبَقَ فَكَانَ مُحْتَاجًا فِي تَقْدِيرِهِ إلَى مُخَصَّصٍ وَمُرَجَّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ. اهـ.
وَقَالَ الْإِمَامُ النَّسَفِيُّ فِي شَرْحِ عُمْدَتِهِ: صَانِعُ الْعَالَمِ لَيْسَ فِي جِهَةٍ خِلَافًا لِبَعْضِ الْكَرَّامِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يُعَيِّنُونَ لَهُ جِهَةَ الْعُلُوِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ عَلَى الْعَرْشِ وَلَيْسَ مُتَمَكِّنًا بِمَكَانٍ وَعِنْدَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ مُتَمَكِّنٌ عَلَى الْعَرْشِ وَقَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ فِي الْمُسَايَرَةِ الَّتِي اخْتَصَرَ فِيهَا الرِّسَالَةَ الْقُدْسِيَّةَ لِحُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيِّ الْأَصْلُ السَّابِعُ أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مُخْتَصًّا بِجِهَةٍ؛ لِأَنَّ الْجِهَاتِ الَّتِي هِيَ الْفَوْقُ وَالتَّحْتُ وَالْيَمِينُ إلَى آخِرِهَا حَادِثَةٌ بِأَحْدَاثِ الْإِنْسَانِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ فَإِنَّ مَعْنَى الْفَوْقِ مَا يُحَاذِي رَأْسَهُ مِنْ فَوْقُ وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ وَلِمَا يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ أَوْ بَطْنِهِ مَا يُحَاذِي ظَهْرَهُ مِنْ فَوْقِهِ ثُمَّ هِيَ اعْتِبَارِيَّةٌ فَإِنَّ النَّمْلَةَ إذَا مَشَتْ عَلَى سَقْفٍ كَانَ الْفَوْقُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا جِهَةَ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ الْمُحَاذِي لِظَهْرِهَا وَلَوْ كَانَ كُلُّ حَادِثٍ مُسْتَدِيرًا كَالْكُرَةِ لَمْ تُوجَدْ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ وَقَدْ كَانَ فِي الْأَزَلِ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ فَقَدْ كَانَ لَا فِي جِهَةٍ وَلِأَنَّ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ بِالْجِهَةِ اخْتِصَاصُهُ بِحَيِّزٍ هُوَ كَذَا وَقَدْ بَطَلَ اخْتِصَاصُهُ بِالْحَيِّزِ لِبُطْلَانِ الْجَوْهَرِيَّةِ وَالْجِسْمِيَّةِ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْجِهَةِ غَيْرُ هَذَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حُلُولُ حَيِّزٍ وَلَا جِسْمِيَّةٍ فَلْيُبَيَّنْ حَتَّى يُنْظَرَ أَيَرْجِعُ إلَى التَّغْرِيَةِ فَنُخَطِّئُهُ فِي مُجَرَّدِ التَّعْبِيرِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ فَيَبِينُ فَسَادُهُ.
الْأَصْلُ الثَّامِنُ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَعَ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَاسْتِوَاءِ الْأَجْسَامِ عَلَى الْأَجْسَامِ فِي التَّمَكُّنِ وَالْمُمَاسَّةِ وَالْمُحَاذَاةِ لَهَا بَلْ بِمَعْنَى يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحَاصِلُهُ وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ فَأَمَّا كَوْنُ الْمُرَادِ أَنَّهُ اسْتِيلَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ فَأَمْرٌ جَائِزُ الْإِرَادَةِ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى إرَادَتِهِ عَيْنًا فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا مَا ذَكَرْنَاهُ. اهـ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الرِّسَالَةِ الْقُدْسِيَّةِ: وَأَمَّا رَفْعُ الْأَيْدِي عِنْدَ السُّؤَالِ إلَى جِهَةِ السَّمَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا قِبْلَةٌ لِلدُّعَاءِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَا هُوَ وَصْفٌ لِلْمَدْعُوِّ مِنْ الْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ تَنْبِيهًا بِقَصْدِ جِهَةِ الْعُلُوِّ عَلَى جِهَةِ الْمَجْدِ وَالْعُلَا فَإِنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ كُلِّ مَوْجُودٍ بِالْعَظَمَةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ وَالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ. اهـ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ لُمَعُ الْأَدِلَّةِ فِي قَوَاعِدِ عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَقَدَّسَ عَنْ الِاخْتِصَاصِ بِالْجِهَاتِ وَالِاتِّصَافِ بِالْمُحَاذَاةِ لَا تَحُدُّهُ الْأَفْكَارُ وَلَا تَحْوِيهِ الْأَقْطَارُ وَلَا تَكْشِفُهُ الْأَقْدَارُ وَيَحِلُّ عَنْ قَبُولِ الْحَدِّ وَالْمِقْدَارِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مُخْتَصٍّ بِجِهَةٍ شَاغِلٌ لَهَا وَكُلَّ مُتَحَيِّزٍ قَابِلٌ لِمُلَاقَاةِ الْجَوَاهِرِ وَمُفَارَقَتِهَا وَكُلَّ مَا يَقْبَلُ الِاجْتِمَاعَ وَالِافْتِرَاقَ لَا يَخْلُو عَنْهُ، وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ حَادِثٌ كَالْجَوَاهِرِ.
وَأَطَالَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ التِّلِمْسَانِيِّ فِي شَرْحِهَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ قَالَ وَالْجَوَابُ الْجَلِيُّ عَنْ الْجَمِيعِ أَيْ جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي اسْتَنَدَ إلَيْهَا مُثْبِتُو الْجِهَةِ أَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُرُودُهُ بِمَا يُكَذِّبُ الْعَقْلَ فَإِنَّهُ شَاهِدُهُ فَلَوْ أَتَى بِذَلِكَ لَبَطَلَ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ مَعًا إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَقُولُ كُلُّ لَفْظٍ يَرِدُ فِي الشَّرْعِ فِي الذَّاتِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِمَا يُوهِمُ خِلَافَ الْعَقْلِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ آحَادًا أَوْ مُتَوَاتِرًا فَإِنْ كَانَ آحَادًا وَهُوَ نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ قَطَعْنَا بِتَكْذِيبِ نَاقِلِهِ أَوْ سَهْوِهِ وَغَلَطِهِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَالظَّاهِرُ مِنْهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَتِّرًا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا أَوْ مُحْتَمَلًا فَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ الِاحْتِمَالُ الَّذِي دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى خِلَافِهِ لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنْهُ فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ إزَالَتِهِ احْتِمَالٌ وَاحِدٌ تَعَيَّنَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِحُكْمِ الْحَالِ، وَإِنْ بَقِيَ احْتِمَالَانِ أَوْ أَكْثَرُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدُلَّ قَاطِعٌ عَلَى تَعْيِينِ وَاحِدٍ أَوْ لَا فَإِنْ دَلَّ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ قَاطِعٌ عَلَى التَّعْيِينِ خَشْيَةَ الْإِلْحَادِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَيُعْزَى إلَى مَالِكٍ الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ بِمَعْنَى أَنَّ مَحَامِلَ الِاسْتِوَاءِ فِي اللُّغَةِ مَعْلُومَةٌ بَعْدَ نَفْيِ الِاسْتِقْرَارِ مِنْ الْقَهْرِ أَوْ الْغَلَبَةِ وَالْقَصْدِ إلَى خَلْقِ شَيْءٍ هُوَ الْعَرْشُ كَمَا قَالَ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} أَيْ قَصَدَ إلَى خَلْقِهَا أَوْ التَّنَاهِي فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} يَعْنِي أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْمَحَامِلِ مَعْلُومَةٌ فِي اللِّسَانِ قَوْلُهُ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ لَنَا قَوْلُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ يَعْنِي أَنَّ التَّصْدِيقَ بِأَنَّ لَهُ مَعْنًى يَصِحُّ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى وَاجِبٌ قَوْلُهُ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ يَعْنِي أَنَّ تَعْيِينَهُ بِطَرِيقِ الظُّنُونِ بِدْعَةٌ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ مِنْ الصَّحَابَةِ التَّصَرُّفُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ بِالظُّنُونِ وَحَيْثُ عَمِلُوا بِالظُّنُونِ إنَّمَا عَمِلُوا بِهَا فِي تَوْصِيلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا فِي الْمُعْتَقَدَاتِ الْإِيمَانِيَّةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ التَّعْيِينَ بِالِاجْتِهَادِ دَفْعًا لِلْخَبْطِ فِي الْعَقَائِدِ وَهُوَ مَذْهَبُ صَاحِبِ الْكِتَابِ ثُمَّ جَلَّى التَّأْوِيلَاتِ إلَى أَنْ قَالَ فَإِنْ قَالُوا جَمِيعُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ تَأْوِيلٌ وَالتَّأْوِيلُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ قُلْنَا قَدْ أَوَّلْتُمْ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ} وقَوْله تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ» وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» فَحَمَلْتُمْ الْمَعِيَّةَ فِي الْآيَتَيْنِ عَلَى مَعِيَّةِ الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى وَأَخِيهِ: {إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وَحَمَلْتُمْ قَوْلَهُ: «الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ» أَيْ مَحَلُّ عَهْدِهِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي آدَمَ فَإِنْ صَحَّ مِنْكُمْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ لِمُخَالَفَةِ الْعَقْلِ فَيَجِبُ تَأْوِيلُ مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِ كَذَلِكَ قَالُوا أَوَّلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ ضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَمَا صِرْتُمْ إلَيْهِ مُحْتَاجٌ إلَى نَظَرِ الْعَقْلِ وَهُوَ حَرَامٌ أَوْ بِدْعَةٌ قُلْنَا لَابُدَّ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِصِدْقِ نَظَرِ الْعَقْلِ، وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ لَكُمْ شَرْعٌ تَسْنُدُونَ إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْكَامِ فَإِنْ قَالُوا يَجِبُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ وَتَكُونُ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَلَيْسَتْ عَاطِفَةً وَحَظُّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الْإِيمَانُ بِهِ قُلْنَا بِهِ وَاجِبٌ عَلَى عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَبْقَى لِوَصْفِهِمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ، وَأَنَّهُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ فَائِدَةٌ بَلْ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ ذُو اللُّبِّ يَعْلَمُ الْوَجْهَ الَّذِي يُشَابِهُ الْبَاطِلَ فَيَنْفِيهِ وَالْوَجْهَ الَّذِي يُشَابِهُ الْحَقَّ فَيُثْبِتُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَـ {نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْبَعْضِيَّةِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَيَنْفِيهِ وَبَيْنَ إضَافَةِ التَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ وَهُوَ حَقٌّ فَيُعَيِّنُهُ. اهـ.
وَقَالَ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ: وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِحَقِيقَةِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْجِهَةِ فَقَدْ بَنَوْا مَذْهَبَهُمْ عَلَى قَضَايَا وَهْمِيَّةٍ كَاذِبَةٍ تَسْتَلْزِمُهَا وَعَلَى ظَوَاهِرِ آيَاتٍ، وَأَحَادِيثَ تُشْعِرُ بِهَا ثُمَّ ذَكَرَهَا وَجَوَابَ تِلْكَ الْقَضَايَا إلَى أَنْ قَالَ: وَالْجَوَابُ أَيْ عَنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ أَنَّهَا ظَنِّيَّاتٌ سَمْعِيَّةٌ فِي مُعَارَضَةِ قَطْعِيَّاتٍ عَقْلِيَّةٍ فَيُقْطَعُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَنُفَوِّضُ الْعِلْمَ بِمَعَانِيهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ اعْتِقَادِ حَقِيقَتِهَا جَرْيًا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَسْلَمِ الْمُوَافِقِ لِلْوَقْفِ عَلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} أَوْ تُؤَوَّلُ تَأْوِيلَاتٍ مُنَاسَبَةً مُوَافِقَةً لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ سُلُوكًا لِلطَّرِيقِ الْأَحْكَمِ الْمُوَافِقِ لِلْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: {إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ الدِّينُ الْحَقُّ نَفْيَ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ فَمَا بَالُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مُشْعِرَةٌ فِي مَوَاضِعَ لَا تُحْصَى بِثُبُوتِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقَعَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقٌ كَمَا كُرِّرَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحَقِيقَةِ الْمَعَادِ وَحَشْرِ الْأَجْسَادِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَأَكَّدَتْ غَايَةَ التَّأْكِيدِ مَعَ أَنَّ هَذَا أَيْضًا حَقِيقٌ بِغَايَةِ التَّأْكِيدِ وَالتَّحْقِيقِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي فِطْرَةِ الْعُقَلَاءِ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَدْيَانِ وَالْآرَاءِ مِنْ التَّوَجُّهِ إلَى الْعُلُوِّ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَرَفْعِ الْأَيْدِي إلَى السَّمَاءِ؟ أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّنْزِيهُ عَنْ الْجِهَةِ مِمَّا يَقْصُرُ عَنْهُ عُقُولُ الْعَامَّةِ حَتَّى تَكَادَ تَجْزِمُ بِنَفْيِ مَا لَيْسَ فِي الْجِهَةِ كَانَ الْأَنْسَبُ فِي خِطَابَاتِهِمْ وَالْأَقْرَبُ إلَى صَلَاحِهِمْ وَالْأَلْيَقُ بِدَعْوَتِهِمْ إلَى الْحَقِّ مَا يَكُونُ ظَاهِرًا فِي التَّشْبِيهِ وَكَوْنُ الصَّانِعِ فِي أَشْرَفِ الْجِهَاتِ مَعَ تَشْبِيهَاتٍ دَقِيقَةٍ فِي التَّنْزِيهِ الْمُطْلَقِ عَمَّا هُوَ سِمَاتُ الْحُدُوثِ، وَتَوَجُّهُ الْعُقَلَاءِ إلَى السَّمَاءِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّمَاءَ قِبْلَةُ الدُّعَاءِ وَمِنْهَا تُتَوَقَّعُ الْخَيْرَاتُ وَالْبَرَكَاتُ وَهُبُوطُ الْأَنْوَارِ وَنُزُولُ الْأَمْطَارِ. اهـ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ فِي الْجِهَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالتَّوَجُّهِ فِي الصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَلَيْسَ هُوَ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَأُمِرُوا بِرَمْيِ أَبْصَارِهِمْ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِمْ حَالَةَ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْأَرْضِ وَكَذَا حَالُ السُّجُودِ أُمِرُوا بِوَضْعِ الْوُجُوهِ عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ هُوَ تَحْتَ الْأَرْضِ فَكَذَا هُنَا بَلْ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ وَخُضُوعٌ وَخُشُوعٌ وَقِيلَ إنَّ الْعَرْشَ جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْقُلُوبِ عِنْدَ الدُّعَاءِ كَمَا جُعِلَتْ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ الْأَبْدَانِ فِي الصَّلَاةِ.
وَعِبَارَةُ الْمَوَاقِفِ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فِي جِهَةٍ، وَخَالَفَ فِيهِ الْمُشَبِّهَةُ وَخَصَّصُوهُ بِجِهَةِ الْفَوْقِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ كَرَّامٍ إلَى أَنَّ كَوْنَهُ فِي الْجِهَةِ لِكَوْنِ الْأَجْسَامِ فِيهَا قَالَ وَهُوَ مَا بَيْنَ الصَّفْحَةِ الْعُلْيَا مِنْ الْعَرْشِ وَتَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالِانْتِقَالُ وَتَبَدُّلُ الْجِهَاتِ وَعَلَيْهِ الْيَهُودُ حَتَّى قَالُوا الْعَرْشُ يَئِطُّ مِنْ تَحْتِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ تَحْتَ الرَّاكِبِ، وَأَنْ يَفْصِلَ عَنْ الْعَرْشِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ أَرْبَعُ أَصَابِعَ وَزَادَ بَعْضُ الْمُشَبِّهَةِ كمض وكهمش، وَأَحْمَدَ الْهُجَيْمِيِّ أَنَّ الْمُخْلِصِينَ يُعَايِنُونَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مُحَاذٍ لِلْعَرْشِ غَيْرُ مُمَاسٍّ لَهُ فَقِيلَ بِمَسَافَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ وَقِيلَ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَيْسَ كَكَوْنِ الْأَجْسَامِ فِي الْجِهَةِ لَنَا وُجُوهٌ وَالْأَوَّلُ لَوْ كَانَ فِي مَكَان لَزِمَ قِدَمُ الْمَكَانِ.
وَقَدْ بَرْهَنَا أَنْ لَا قَدِيمَ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ، الثَّانِي الْمُمَكَّنُ يَحْتَاجُ إلَى مَكَان وَالْمَكَانُ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْمُتَمَكِّنِ لِجَوَازِ الْخَلَاءِ فَيَلْزَمُ إمْكَانُ الْوَاجِبِ وَوُجُوبُ الْمَكَانِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ الثَّالِثُ لَوْ كَانَ فِي مَكَان فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَازِ أَوْ جَمِيعِهَا وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِتَسَاوِي الْأَحْيَازِ فِي أَنْفُسِهَا وَنِسْبَتِهِ إلَيْهَا فَيَكُونُ اخْتِصَاصُهُ بِبَعْضِهَا تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجَّحٍ أَوْ يَلْزَمُ الِاحْتِيَاجُ إلَى الْغَيْرِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَدَاخُلُ الْمُتَحَيِّزَيْنِ فَإِنَّهُ مُحَالٌ بِالضَّرُورَةِ.
وَالرَّابِعُ لَوْ كَانَ مُتَحَيِّزًا لَكَانَ جَوْهَرًا فَإِمَّا أَلَّا يَنْقَسِمَ أَوْ يَنْقَسِمَ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ أَخَسُّ الْأَشْيَاءِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَكُونُ جِسْمًا وَكُلُّ جِسْمٍ مُرَكَّبٌ وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ، وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ فَيَلْزَمُ حُدُوثُ الْوَاجِبِ، وَأَطَالَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ قَالَ فَالْجَوَابُ أَيْ عَنْ الظَّوَاهِرِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّجْسِيمِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ أَنَّهَا ظَوَاهِرُ ظَنِّيَّةٌ لَا تُعَارِضُ الْيَقِينِيَّاتِ كَيْفَ وَمَهْمَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِمَا مَا أَمْكَنَ فَنُؤَوِّلُ الظَّوَاهِرَ إمَّا إجْمَالًا وَنُفَوِّضُ تَفْصِيلَهُ إلَى اللَّهِ كَمَا هُوَ رَأْيُ مَنْ يَقِفُ عَلَى {إلَّا اللَّهُ} عَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ وَالْبَحْثُ عَنْهَا بِدْعَةٌ، وَإِمَّا تَفْصِيلًا كَمَا هُوَ رَأْيُ طَائِفَةٍ فَنَقُولُ الِاسْتِوَاءُ الِاسْتِيلَاءُ نَحْوَ قَدْ اسْتَوَى عَمْرٌو عَلَى الْعِرَاقِ وَالْعِنْدِيَّةُ بِمَعْنَى الِاصْطِفَاءِ وَالْإِكْرَامِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ قَرِيبٌ مِنْ الْمَلِكِ {وَجَاءَ رَبُّك} أَيْ أَمْرُهُ، و{إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ} أَيْ يَرْتَضِيهِ فَإِنَّ الْكَلِمَ عَرَضٌ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ وَمَنْ فِي السَّمَاءِ أَيْ حُكْمُهُ وَسُلْطَانُهُ أَوْ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالْعَذَابِ وَعَلَيْهِ فَقِسْ سَائِرَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ. اهـ.
وَقَالَ السَّيِّدُ فِي شَرْحِهَا فَالْعُرُوجُ إلَيْهِ هُوَ الْعُرُوجُ إلَى مَوْضِعٍ يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالطَّاعَةِ فِيهِ، وَإِتْيَانُهُ فِي ظُلَلٍ إتْيَانُ عَذَابِهِ، وَالدُّنُوُّ هُوَ قُرْبُ الرَّسُولِ إلَيْهِ بِالطَّاعَةِ، وَالتَّقْدِيرُ بِقَابَ قَوْسَيْنِ تَصْوِيرُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَالنُّزُولُ مَحْمُولٌ عَلَى اللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ وَتَرْكِ مَا يَصْعَدُ عَنْهُ عِظَمُ الذَّاتِ وَعُلُوُّ الْمَرْتَبَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَخُصَّ بِاللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْخَلَوَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْخُضُوعِ وَالْعِبَادَاتِ. اهـ.
وَمَعْنَى وَرَافِعُك إلَيَّ، إلَى مَحَلِّ كَرَامَتِي وَمَقَرِّ مَلَائِكَتِي وَقَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الِاقْتِصَادِ فِي الِاعْتِقَادِ إنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فِي جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ السِّتِّ وَمَنْ عَرَفَ مَعْنَى لَفْظِ الْجِهَةِ وَمَعْنَى لَفْظِ الِاخْتِصَاصِ فَهِمَ قَطْعًا اسْتِحَالَةَ الْجِهَةِ عَلَى غَيْرِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ إذْ الْحَيِّزُ مَعْقُولٌ وَهُوَ الَّذِي يَخْتَصُّ الْجَوْهَرُ بِهِ وَلَكِنَّ الْحَيِّزَ إنَّمَا يَصِيرُ جِهَةً إذَا أُضِيفَ إلَى شَيْءٍ آخَرَ مُتَحَيِّزٍ فَإِنْ قِيلَ نَفْيُ الْجِهَةِ مُؤَدٍّ إلَى مُحَالٍ وَهُوَ إثْبَاتُ مَوْجُودٍ تَخْلُو عَنْهُ الْجِهَاتُ السِّتُّ وَيَكُونُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُتَّصِلًا بِهِ وَلَا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ قُلْنَا مُسَلَّمٌ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَقْبَلُ الِاتِّصَالَ فَوُجُودُهُ لَا مُنْفَصِلًا وَلَا مُتَّصِلًا بِهِ مُحَالٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَقْبَلُ الِاخْتِصَاصَ بِجِهَةٍ فَوُجُودُهُ مَعَ خُلُوِّ الْجِهَاتِ السِّتِّ عَنْهُ مُحَالٌ.
فَأَمَّا مَوْجُودٌ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَالَ وَلَا الِاخْتِصَاصَ بِالْجِهَةِ فَخُلُوُّهُ عَنْ طَرَفَيْ النَّقْصِ غَيْرُ مُحَالٍ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ يَسْتَحِيلُ مَوْجُودٌ لَا يَكُونُ عَاجِزًا وَلَا قَادِرًا وَلَا عَالِمًا وَلَا جَاهِلًا فَإِنَّ الْمُتَضَادَّيْنِ لَا يَخْلُو الشَّيْءُ عَنْهُمَا فَيُقَالُ لَهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ قَابِلًا لِلْمُتَضَادَّيْنِ فَيَسْتَحِيلُ خُلُوُّهُ عَنْهُمَا أَمَّا الْجِدَارُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْطَهُمَا وَهُوَ الْحَيَاةُ فَخُلُوُّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ بِمُحَالٍ فَلِذَلِكَ شَرْطُ الِاتِّصَالِ وَالِاخْتِصَاصِ بِالْجِهَاتِ التَّحَيُّزُ وَالْقِيَامُ بِالْمُتَحَيِّزِ فَإِذَا فَقَدَ هَذَا لَمْ يَسْتَحِلْ الْخُلُوُّ عَنْ مُضَادَّتِهِ. اهـ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ احْتَجَّ النَّافُونَ لِلْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهُمَا لَوْ كَانَ عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ فِي جِهَةٍ وَثُبُوتُهَا فِي الْقَدِيمِ يُؤَدِّي إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا حُدُوثُ الْقَدِيمِ أَوْ قُدُومُ الْحَادِثِ؛ لِأَنَّ أَمَارَاتِ الْحُدُوثِ إنْ لَمْ تَبْطُلْ دَلَالَتُهَا ثَبَتَ حُدُوثُ الْقَدِيمِ، وَإِنْ بَطَلَتْ دَلَالَتُهَا لَمْ يَثْبُتْ حُدُوثُ الْعَالَمِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجِهَةَ مِنْ أَمَارَاتِ الْحُدُوثِ أَنَّ التَّعَرِّي مِنْ الْجِهَةِ ثَابِتٌ فِي الْأَزَلِ فَلَوْ ثَبَتَتْ الْجِهَةُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ لَتَغَيَّرَ عَمَّا كَانَ وَلَحَدَثَ فِيهِ مُمَاسَّةٌ وَالتَّغْيِيرُ وَقَبُولُ الْحَوَادِثِ مِنْ أَمَارَاتِ الْحُدُوثِ ثَانِيهَا لَوْ كَانَتْ ذَاتُهُ مُخْتَصَّةً بِجِهَةٍ فَأَمَّا أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْهَا أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فَإِنْ تَمَكَّنَ كَانَ مَحَلًّا لِلْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ كَانَ كَالزَّمَنِ الْعَاجِزِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَمَارَاتِ الْحُدُوثِ.
ثَالِثُهَا لَوْ كَانَ فِي جِهَةٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْجِهَاتِ كُلِّهَا وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنْ اخْتَصَّ بِبَعْضِهَا احْتَاجَ إلَى مُخَصَّصٍ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ رَابِعُهَا لَوْ كَانَ بِجِهَةٍ مِنْ الْعَالَمِ مُحَاذِيًا لَهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِجِسْمِ الْعَالَمِ أَوْ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ مِنْهُ وَكَذَا لَابُدَّ مِنْ مَسَافَةٍ مُقَدَّرَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَالَمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ التَّقْدِيرَ بِمِقْدَارٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَامَةً فَيَحْتَاجُ إلَى مُخَصِّصٍ وَمُقَدِّرٍ.
خَامِسُهَا لَوْ ثَبَتَ اخْتِصَاصُهُ بِالْعَرْشِ فَإِنْ كَانَ الِاخْتِصَاصُ لِاقْتِضَاءِ ذَاتِهِ أَوْ صِفَتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِصَاصُ ثَابِتًا فِي الْأَزَلِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَعَدَمِ جَوَازِ تَخَلُّفِ الْمُقْتَضَيْ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا لِاقْتِضَاءِ ذَاتِهِ وَصِفَتِهِ فَلَابُدَّ لَهُ مِنْ تَخْصِيصٍ.
سَادِسُهَا لَوْ كَانَ عَلَى الْعَرْشِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ مِنْهُ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّنَاهِي وَالتَّبْعِيضَ وَالتَّجَزُّؤَ.
سَابِعُهَا لَوْ كَانَ عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ مُشَارًا إلَيْهِ بِالْحِسِّ وَكُلَّمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ إمَّا مُتَنَاهٍ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ أَوْ مِنْ بَعْضِهَا أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهٍ أَصْلًا، وَالثَّالِثُ بَاطِلٌ لِوُجُوبِ تَنَاهِي الْأَجْسَامِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ لَكَانَ الْعَالَمُ سَارِيًا فِي ذَاتِ اللَّهِ وَحَالًّا فِيهِ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مُخَالِطَةً لِلْقَاذُورَاتِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذَا الْمَقَالِ وَعَنْ هَذَا الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ؛ لِوُجُوبِ تَنَاهِي الْأَجْسَامِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ مِنْ بَعْضِ الْجَوَانِبِ دُونَ بَعْضٍ لَافْتَقَرَ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْجَوَانِبِ بِالتَّنَاهِي وَبَعْضِهَا بِعَدَمِ التَّنَاهِي إلَى تَخْصِيصٍ لِوُجُوبِ تَسَاوِي جَمِيعِ الْجَوَانِبِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ، وَإِنْ فُرِضَ اخْتِلَافُهَا فِي الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ فَكُلُّ ذَاتٍ كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْمَاهِيَّةِ وَالطَّبِيعَةِ فَلَابُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ ذَلِكَ التَّرْكِيبُ إلَى أَجْزَاءٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي نَفْسِهِ بَسِيطًا خَالِيًا مِنْ التَّرْكِيبِ كَالْجُزْءِ الْوَاحِدِ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْبَسِيطَةِ لَابُدَّ أَنْ يُمَاسَّ بِيَمِينِهِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَمَسَّهُ بِيَسَارِهِ وَبِالضِّدِّ فَيَكُونُ التَّفْرِيقُ عَلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ جَائِزًا فَالتَّأْلِيفُ وَالتَّفْرِيقُ عَلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ جَائِزَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ افْتَقَرَ تَأْلِيفُهُمَا وَتَرْكِيبُهُمَا إلَى مُؤَلِّفٍ وَمُرَكِّبٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُشَارٌ إلَيْهِ بِالْحِسِّ لَكَانَ مُتَنَاهِيًا مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، وَإِذَا كَانَ مُتَنَاهِيًا مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ كَانَ وُجُودُ أَزْيَدَ مِمَّا وُجِدَ أَوْ أَنْقَصَ مِمَّا وُجِدَ جَائِزًا فَيَفْتَقِرُ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ إلَى مُخَصِّصٍ وَذَلِكَ عَلَى خَالِقِ الْعَالَمِ مُحَالٌ. اهـ.
وَفِي هَذَا الْقَدْرِ كِفَايَةٌ فِي اعْتِقَادِ الْحَقِّ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَا قَالَهُ الْقَائِلُ الْمَذْكُورُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِجِهَةِ الْعُلُوِّ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنْ وُفِّقَ وَرَجَعَ إلَى الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَإِنْ رُفِعَ إلَى الْحَاكِمِ وَثَبَتَ عَلَيْهِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ مِنْ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ عَزَّرَهُ الْحَاكِمُ التَّعْزِيرَ اللَّائِقَ بِحَالِهِ الرَّادِعَ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ عَنْ ارْتِكَابِ مِثْلِ قَبِيحِ أَقْوَالِهِ خُصُوصًا إذَا خِيفَ مِنْهُ انْتِشَارُ بِدْعَتِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.